تجربتي مع الموت
والبعض يعيش أحياناً مرَّتين..
وككل اللبنانيين عانينا الكثير. لقد فقدتُ أخاً أشقر شاباً حلواً، كما فقدت أخاً لزوجي فناناً هو رياض نجار أنجز بيوتاً جميلة رائعة بفنِّه وديكوره في بيروت، كما فقدنا أحباءً كثراً لا ننساهم.
وككل اللبنانيين خسرنا منزلاً فيه الذكريات، ومكاتب للأدوية فيها تعب الأيام ومنزلاً أخضر في الجبل وسُرقت “علامة” الزفاف وخواتم الزواج في أحد البنوك.
ومع هذا كلّه كنَّا عائلة سعيدة جداً متآلفة متكاتفة يطغى علينا الحبور والسرور والفرح. فقد أنعم الله علينا بزواجٍ ناجحٍ للغاية. زواج كان أساسه الحب والتفاهم والحوار.
إلى أن جاء اليوم الذي كنت فيه على موعد مع الموت. طلقات نارية مباشرة بوجهي. مسدس تخرج منه النار قبالة عيني، شعرت بالرصاصة الأولى التي جرحتني ولم أشعر بالرصاصات الأربع المتواليات التي اخترقت وجهي ويدي. أصابتني دوخة أوقعتني أرضاً وسمعت وأنا على الأرض طلقتين متواليتين، ولم أشعر أين أُصبت.. لم أفقد الوعي وكحلم مرعب.. وجدت نفسي ملقاة على الأرض.
رأيت معصمي بجانب وجهي وفيه فتحتان يخرج منهما الدم.. واقتربت بإصبعي ألمس بها عيني لأتأكَّد.. هل صحيح أطلق عليَّ الرصاص فعلاً؟
يا رب.. يا رب.. وأحسست أنني أرتفع عن الأرض، أنا مرتفعة، خفيفة الوزن وكأنني في كوكب انعدام الوزن.. وكأنَّ روحي تغادر الأرض..بدأ تفكيري يسابق الحدث وتلوت من القرآن الكريم يا رب.. “قل هو الله أحد الله الصمد لم يولد ولم يلد ولم يكن له كفواً أحد”.
مخيَّلتي تعود بسرعة لطفولتي، لوالديّ، لإخوتي، صديقات الطفولة، زوجي وأولادي، الناس، أين فاروق؟؟
غريب ما أحسست به وودت لو أقول لأهلي وزوجي وأولادي.. لا تحزنوا فأنا سأذهب لملاقاة وجه ربِّي الرؤوف، وهدوء واستسلام يلفُّني. لا وجع هناك ولا ألم وعدت أقرأ الفاتحة وأنا لم أزل ملقاة على الأرض. غصَّ قلبي فجأة.. لن أرى أحداً بعد اليوم سنفترق لن أواسي أهلي ولن أوصي أولادي واعتصر الألم كبدي لفراقهم.
لم يكن من مجيب سوى الخادمتين أطلَّتا مولولتين.. وأنا بصوت خفيض أنادي فاروق. أعطوني ثلجاً.. ثلجاً وتساءلتا: ثلج يا ست رشا.. فأنا مدرِّسة للتربية الرياضية وأعرف أنَّ الثلج يوقف النزيف في حال الإصابة.. وهكذا كان. وضعت الثلج على رقبتي ممسكةً بكلتي يدي رأسي.. وصراخ.. وجيران.. ونساء وفتيات.. الكل يطلب منِّي أن أنام في سريري وأنا أطلب زوجي ومن سيحملني سواه؟؟ خوف رهيب، فراغ كبير، هوَّة لا قرار لها. لا أحد يتحرَّك.. لا أحد يصدِّق ما حدث لي ولكن أنا هذه المرَّة صدَّقت ما حصل لي.
قدماي سليمتان، ووقفت بكامل قوتي وإدراكي، وفي رأسي “كومبيوتر” لا أعلم من أين.. أسرعت إلى خارج المبنى ومشيت هرولة. أحد الجيران في بناية مجاورة عرض نقلي لمستشفى قريب، كان رجائي إليه أن يأخذني إلى أهلي في مستشفى نجار. قال صعب كثيراً. وفعلاً كان صعب التحرك في هذه الليلة الظلماء التي تضج بالانفجارات، والرصاص يلعلع في سماء بيروت. طلبت منه نقلي عند صديقتي بشرى قانصوه. وهكذا قطع بي المسافة الصعبة وركضت وطلبت المصعد دون أن أنظر إلى نفسي في المرآة مخافة أن يهولني منظر وجهي المقتول. لم أجد صديقتي أكملت المصعد لصديقة ثانية هي ريم مريم بك، لم أجدها. أكملت كبس أزرار المصعد للصديقة ناديا منصور في المبنى نفسه لم أجدها. ابنها الشاب وائل ابن السابع عشرة حملني بسيارته الصغيرة. وأنا في الطريق خفت عليه. أمُّه ستسأل عنه. ماذا لو حدث له مكروه بين الرصاص؟ وتنبَّهت إلى أنَّ طريق البحر أفضل سبيل لتكون بأمان. هو يرتجف والسيارة ترتجف ورأسي بدأت تتهاوى.
ووصلنا المستشفى وأيضاً ركضت نحو المدخل أعرِّف عن نفسي بصوتٍ عالٍ حتى لا أغيب عن الوعي لأنَّ لا أحد سيتعرَّف عليّ. ثيابي كلّها دماء، وجهي بدأ يتورَّم. أنا مرتو للدكتور فاروق نجار اطلبوا دكتور فيصل.. أنا زوجة أخيه.
ولحظات أطلَّ عليَّ وجه فيصل، ارتحت وسلَّمت أمري لله وله وقلت بصعوبة والدموع تفيض من عيني فاروق لقد تأخَّر. ألم يعلم ما حلَّ بي.
بدأت أغيب عن الوعي وأصحو وأرى الأهل والأولاد والصديقات كلهم فوق رأسي ما عداه.
رأيت من طرف باب الطوارئ وجه ابني طارق منهاراً يبكي فرفعت له إصبعي الباهم. لا تخف أنا بخير.
ورأيت الضوء المدور الأبيض فوق رأسي وأعطوني إبرة البنج. وسمعت دكتور فيصل يسألني ويقول: لن تسمعنا. وأنا أسمعه ولكن لا أستطيع أن آتي بأية حركة ويعود ويسألني: رشا هناك رصاصة دخلت في العنق ولازم توصل إلى جانب القلب ولم نجدها في التصوير. هل ابتلعت أي شيء قاسٍ؟
ـ نعم. لقد أحسست عند إطلاق النار أنني ابتلعت بحصة.
فكان جوابه: هذه هي الرصاصة، إنَ أسنانك كاملة.
وساعدني الأطباء في الوقوف على قدمي وأخذوا صورة الأشعة. وهناك أحسست أنني أسلمت الروح.
في اليوم التالي (يوم 23 شباط) صحوت من الجراحة وأنا لا أدري بأنني سأعيش مرَّة أخرى. حياة ثانية مختلفة بلا رفيق الدرب وشريك العمر بلا ربَّان السفينة الذي وهبني أجمل سنوات حياتي.
ولم يزل يعطيني من ذكرى رفقتي لدربه القوة والصمود لإكمال حياتي الثانية وحدي.. فاروق خذها باقة عطر في ذكراك الخامسة.
—
نشرت في مجلة “الأفكار” عام 1992