انقضى عامان على رحيل الصيدلي الشاب فاروق النجار، فأخذت أرملته الشابة رشا النجار وكتبت إلى “الأفكار” عن الزوج الراحل هذه المقالة المفعمة بالوفاء في زمن كاد فيه الوفاء مثل حيوان “الديناصور” أن ينقرض.
فاروق الحبيب
إنَّ الزمان الذي كـان يضحكنـا
أنسـاً بقربكم قـد عـاد يبكينـا
بالأمس كنَّـا وما يخشـى تفرقنـا
واليوم نحن فـلا يُرجى تلاقينـا
غيظ العـدا مـن تساقينـا الهـوى
ندعو أن نغصّ فقال الدهر آمينـا
والله لـم نعتقد غيـر الوفـاء لكـم
رأيـاً ولـم نتقلَّـد غيـره دينـا
دار الزمان دورته وافترقنا. قطع الزمان القلب الواحد إلى قلبين لا يلتقيان إلاَّ في الخيال. ضرب الزمان ضربته الغادرة فإذا بالنعيم يغدو جحيماً.. ورغد العيش يصير شقاء.. والابتسامة تموت على الشفاه..ها أنذا أيها الحبيب فاروق أستفيق على الحقيقة المرَّة.. إنَّ الحياة بدونك لا طهم لها ولا لذَّة. سأعيش الربيع بلا خضرة، وأشاهد البحر دون أن أحس بعناق الموجة مع الشاطئ، وأشرب بلا نشوة.. وأرى الورد بلا عطر.. والأوتار بلا نغم، فقد كنتَ أنتَ نغم الوتر.. وعطر الورد.. وخضرة الربيع.. ومعنى الحياة.
لمن يخفق القلب من بعدك، وتضطرب الجوانح، وترنو العين، وبمن يقصر الليل ويحلو السهر وتدوم النظرة ألف عام..
مَنْ بعدك يفهم الكلمة التي لم أقلها، ويترجم لحظة الصمت، ويخترع لغة التخاطب التي لا يتقنها غيرنا.
مَنْ بعدك يغيِّر مناخاتي النفسية ويتحكَّم في مراحل حياتي، فأبكي خوفاً منك وأبكي خوفاً عليك.. وأبكي شوقاً وشوقاً إليك كطفلة صغيرة.. صغيرة سلاحها الوحيد دموع عينيها..
أحبُّك كما يحبُّ الصوفيّ الله. لا يرى غيره ولا يحسُّ بسواه.. أحبُّك كما يحب الطفل صدر أمِّه.. وكما يحب الصائم جرعة الماء.. أحبُّك في المنام وفي اليقظة وفي الفرح والحزن.
أحبُّك بين الرصاصة والرصاصة وأراك في وجه الطبيب الذي أراد لي الحياة. وأراك في وجه أولادي ووجه أهلي والأصحاب، كل الأصحاب فهم ساعدوني على إكمال مشوار الحياة.
أما عن أولادي فهم عالمي وعالمك الجميل.. هم صورة عنك أرتاح وأسعد بها ليوم قيامتي..
فاروق الحبيبت
علَّمت منك كيف أحبُّ الناس وأغفر كل الأخطاء، فالقلب الذي يحبُّك لا مكان فيه لحقد أو ضغينة.
تعلَّمت منك كيف أصبح إنسانة ناجحة.. تعملقت على يديك حتى لامست السماء.
بعد هذا أيها الغالي.. هل يمكنني أن أعيش بدونك؟
هل يمكن فصل العين عن الأهداب؟ ونزع القلب من الشغاف؟ وسحب الدم من الشرايين؟ هل يمكنني أن أعيش بلا قلب؟ وأحيا بلا روح؟
مع صلاتي وحبِّي.
—
نشرت في مجلة “الأفكار” عام 1989.