رسالـة إلى الجنَّـة
هنا أبعث رسالتي من أرض بيروت، أرض شهداء وأحباء وغوالٍ غادروها إلى الجنَّة بإذنه تعالى.
” قالوا عليـك سبيل الصَّبـرِ قلت لهم
هيهات إنَّ سـبيل الصَّبـرِ قد ضـاق
ما يرجـع الطَّرف عنه حتى يبصره
حتـى يعـود إليـه القلـب مشـتاق”
فاروق الحبيب
الحرب عادت من جديد في غيابك، عادت أشرس وأعنف. حملت معها التهجير والتشريد والذل. كل بيروت، كل أهلها هجروها غير طائعين. أنا وأولادي كلّ في ديار. أصعب الأشياء في الحياة أن تقبل السيِّء لأنَّ هناك الأسوأ.
” يُقض على المرءِ فـي أيـام محنته
بأن يرى حسـناً ما ليس بالحسـنِ”
لم يقولوا لنا لماذا يقتلوننا. ليتهم يقولون لماذا نُذبح كل يوم ونموت في اليوم الواحد ألف مرَّة. صمدت بيروت، وصمد معها ولدنا طارق سبعة أشهر يلفُّ الشوارع بين المنزل والعمل، يدور بين القذيفة والراجمة. لم يقبل الهروب” سأبقى هنا لأطفئ ناراً قد تلتهم أرزاقنا وتحرق الذكريات، وأسلك نهج والدي في لبس دور الأطفائي، والتعامل مع بيئته، بالقلب الكبير، وبالقول الكثير. يا نار كوني برداً وسلاماً على بيروت.
كل الشباب يهاجر يا فاروق، وأولادنا الصامدون لذلك ظاهرة في وطنهم وبيئتهم.
خاضوا غمار الجولات الجديدة من الحرب ولم ييأسوا.
وعدنا إلى ست الكل، إلى بيروت، كما أسماها الشاعر نزار. عدنا إلى ست الكل، مرهقين، متعبين، أضنانا التهجير والخوف والانتظار. عدنا إليها بوعدٍ كبير لإصلاح ما تهدَّم وما حُرق وتكسَّر. الحياة في بيروت مُرَّة، وفجر بيروت أكثر مرارة.
فاروق الحبيب
هل تعلم؟ بل أنت تعلم.. أنك معي دائماً.. في داخلي في حناياي. أرى الأشياء بعينيك أنت.. أقود سفينة العائلة بروحك أنت.. وقناعاتك أنت.. أشاورك، أحاورك، أناقشك، أتشاجر معك وأصالحك من جديد. هل تعلم؟ بل أنت تعلم أنَّك مالك قراراتي، مالك خياراتي ومالك أيامي وساعاتي الحاضرة والآتية.
فاروق الحبيب
أنت حي، أنت حي في قلوب الأحبَّة والأصحاب وكل مَنْ عرفك في الطريق الجديدة والرملة البيضاء ورأس بيروت. أنت حي في عقول أبنائك، حي في تفكيرهم، صورتك مجسَّدة في في كل خطوة. هم أبناؤك البررة لخالقهم ووطنهم وعائلتهم. أنت قدوة لهم لا حدود لها. أنت قدوة ليس من اليسير على كل إنسان الاقتداء بها.
هنيئاً لك الجنَّة. هنيئاً لك الفردوس.
وأعود لأردِّد مع الشاعر:
لـو حُـزَّ بالسَّيف رأسي في مودتـه
يهـوي سـريعـاً نحــوه رأسـي
ولو بُلي تحت أطباق الثرى جسـدي
لكنـت أبلـى وقلبـي لكـم ناسـي
صـار ذكركـم روحـاً أعيشُ بـه
مــا عشـــتُ فــي النَّــاس
لـولا نسـيم لذكـر ألـم يروحني
لكنـت محترفـاً مـن حـرِّ أنفاسي
سأذكرك في كلِّ مشهد من بلدي.
سأعيشك بأنفاسي في كلِّ لحظة من لحظات عمري.
من قال أنَّ الردى قد طواك.
الردى لا يطوي المميَّزين. وقد كنت مميَّزاً يا شريك العمر في كلِّ شيء.
فسلام عليك في الجنَّة الوارفة. وسلام علينا حتى يخفف الله من بلوانا.
ويصحبنا الحديث الشريف: “اللهم لا أسألك ردَّ القضاء بل أسالك اللطف فيه.
مع حبي
—
(*) نشرت في مجلة ” الأفكار” عام 1990