واكتـابـاه!!
هل ما زال اللبنانيون يقرأون؟
هل ما زال الكتاب خير جليس في بيوتهم. استيحاءً لشعر أبي الطيِّب المتنبي.
أعـزُّ مكان في الدنى سرج سابحٍ وخيـر جليسٍ في الأنـامِ كتـاب
هل ما زالت الفتاة اللبنانية تخفي دواوين نزار قباني وبودلير تحت وسادتها؟ وهل ما زال الفتى يضع كتاب طه حسين أو توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ إلى جانب مصباح الليل قرب سريره؟ أم تراها مشاهد عفا عليها الزمن وأمست من ليالي الأمس التي هيهات أن تعود؟؟
يقول الشاعر الكبير سعيد عقل أن أهم أديب في لبنان لا يطبع من كتاب جديد أكثر من ثلاثة آلاف نسخة لأنَّ القارئ العربي لم يعد قارئ كتاب بل هو قارئ للتلفزيون وشاشات مضيئة ولوحات الكومبيوتر. فمن أين له بعد ذلك أن يجالس خير الأنام ـ أنا شخصياً أصبت بالعدوى ونالني من سوء الحظ من عدم القراءة ما نال غيري. فقد كان عمري اثني عشرة عاماً فقط حين سرقت من مكتبة والدي ديوان رباعيات الخيام الشاعر والحكيم والفيلسوف والفلكي الفارسي. وظلَّت أشعار الخيَّام مزروعة في وجداني وظلَّت في تواصل لا ينقطع وصولاً إلى كتاب سمرقند الذي وقع في يدي مؤخراً للكاتب اللبناني المقيم في باريس أمين معلوف حيث يقول: “عندما غرقت الباخرة “تايتانيك” في الليلة الرابعة عشرة من نيسان (أبريل) 1912 ميلادية، في عرض المياه (الأرض الجديدة) كان أعظم الضحايا وأعجبها كتاب هو نسخة فريدة من رباعيات عمر الخيَّام ـ وكانت نسخة الكتاب بين أمتعة بنحامين ع ـ لوساج ـ وشعرت بأنَّ الحياة بكرة من خيوط يتصل خيطها الأول في حياتي عبر بنت الثانية عشرة ووصولاً إلى المرأة التي هي أنا اليوم.
كنت قارئة مواظبة، أتلهَّف للكتاب وأتشوَّق إلى محتواه ولا أدري متى أبدأ معه وكيف أنتهي وكأنَّه أول حبيب في حياتي. ولم يكن كتاب الخيام هو ذاتي الروحي الوحيد فإنَّ رابرنت طاغور الفيلسوف الهندي ونداءاته (يا رفيقي، ويا صديقي) ما زلت ترن في وجداني. كان طاغور صديقي الخفي، ومحدِّثي الصامت، يحمل مرشة الكلمات الإبداعية ويسقي بها تربة الإنسانية والمحبة في ذاتي البشرية. كان معي أيضاً وأنا صبيَّة غريرة كتاب “جين إبر، تلك المرأة الدميمة الوجه الجميلة الروح التي أدخلت الحب إلى فؤاد رجل متعجرف قاسٍ فظ غليظ القلب جاءت تدير له منزله. وما زلت مسكونة بها حتى الآن.
وكتب جبران خليل جبران وتلك الأجنحة المتكسِّرة وخيال بنت بشري سلمى كرامة من تُراه لا يذكرها كذلك. لقد كانت طعامنا الروحي في سن المراهقة ومثلها أشعار نزار قباني ونحن نتدرَّج في معارج الصبا.
وقد بلغ من انتشار نزار وكتبه أنَّ جميع الآتين لسماعه في الوست هول لم يجدوا مكاناً في الداخل فافترشوا الأرض ليسمعوا الشعر من سيد الشعر.
كان الكتاب حاكماً في تلك الفترة من الزمن ربما لأنَّه كان يسير المتناول تسمح الظروف المالية لجميع الناس باقتنائه يعكس على ما هي الحالة الآن.
ولكنني بكل أسف أرى أنَّ أُذن الناس اجتاحت عيونهم فأمسوا يحبون الاستماع إلى الأديب أو الشاعر بدلاً من أن يقرأوه. يكلِّفون أنفسهم مشقَة التوجه إلى أي مكان يغرِّد فيه شاعر ولا يكلِّفون خاطرهم بالتوجُّه لأية مكتبة لاقتناء كتاب شعري. حالة انفصال في جمهورية الحواس الخمس ما بين العين والأُذن وأتساءل الآن ما الذي جرى؟
مَنْ اغتال الكتاب في عزِّ شبابه، فهدر حروفه وسفك دماء سطوره وأبعده عن عيوننا وأيدينا.
هل هي الحرب الضارية التي اغتالت الكتاب بعد محنة الخمسة عشرة سنة؟؟
هل هي الحرب التي استهلكت أحاسيسنا وعواطفنا التي كانت مرتعاً للكتب والمؤلفات وملعباً للشعر والفكر والكلمة، هل هي تلك المخاضات التي مررنا بها من حالات رعب وقلق؟ من ألم وتشرد من تهجير وبؤس من يأس وإحباط وخيبة أمل؟ ننظر الآن إلى الكتاب في واجهات المكتبات كتمائيل شمع لا تعني لنا شيئاً.
هل هو القصور المعيشي والعسر الاقتصادي اللذان جعلا الكتاب في الصفوف الخلفية من حياتنا اليومية؟ وأسأل المحيطين بي هل أصابكم ما أصابني من عدم تركيز وقلَّة متابعة وأزمة تدقيق وتمحيص؟
ويأتيني الجواب بضحكة عريضة فكلنا في فلك عدم المطالعة سابحون والبنت الصغيرة ذات الجدائل تصرخ في أعماقي معاتبة: أين كتبك وأين شاعرك وأين خيامك؟؟ أتراكِ تحوَّلتِ إلى امرأة أمِّية؟ ويحك يا صبيَّة.
—
نشرت في مجلة “الأفكار” في نيسان 1993