مجلة الأفكار

شو بدنا.. أكثر؟!

نقطة ماء واحدة كرجت على سقف الجيران تبعتها نقطة ثانية وثالثة على “موكيت”… الجيران…

مضى شهر، شهران لم نكتشف مصدر هذه النقطة. قرفوا الجيران واشمأزوا وكشَّروا وصرخوا واتخذوا منِّ موقف الأعداء..

ـ أخيراً سمكري قبضاي كشف سر نقطة الماء… والسر هو بتكسير نصف بلاط المنزل، يعني ورشة وإسمنت وبلاط وترابة، وعمال،، حالة من الفوضى والغبار لا توصف، إعداد مائدة للعمال وللأولاد، أصبح سجاد المنزل للتنظيف، الستائر للغسيل، نصف الموكيت للتغيير، نرفزة، وتعصيب لمدة ثلاثة أشهر ونيف ناهيك عن المصاريف والتكاليف الباهظة لإعادة كل شيء إلى طبيعته أو ما شابهها…

ـ هذه النقطة المسافرة من بيت إلى بيت تجمع حولها أنواع من البشر وكثير من الضرر وكأنها بداية لحكاية تشريد قوم آمن.

ـ ما بالكم ببلدٍ وآلاف النقاط من الماء اختلطت بأمعاء أهله، هذه القطرات العشرية والكارجة شربناها لمدة سبعة عشرة سنة من حيث لا ندري!! أما الذي ندريه جيداً فهو آلاف القذائف والمدافع المنهمرة على بيوتنا وأجسادنا.

ـ لن أعود إلى الأيام الصعبة، لن أعود إلى نصف العمر الملغى والمقتول بأتون حربنا الغبية.

ـ لن أعود سوى لأربع سنوات خلت وكلنا ظمأ للأمن والأمان. وكنا قد انتظرنا هذه اللحظة بذهول اليائسين وبعدم التصديق بأنَّ الحرب توثقت وشريعة الغاب انتهت.

ـ أفقنا من غيبوبة الحرب، ونسينا أنَّ الوطن أشلاء، وطن باقٍ لنا وبنا ولكنه محطَّم، بحاجة إلى قيامة عظمى، إلى نهوض كبير من كبوةٍ أطاحت منه البشر والحجر. وحان وقت السواعد والعمل والتعمير.

ـ أرى بعض الناس يعارض وينتقد ويتذمَّر من حالة الإعمار وخاصة إعادة تأهيل مجاري المياه.

ـ لقد صمدنا في الحرب لا أدري لماذا لا نصمد في السلم. هناك خطة إنمائية كبرى، وهناك أولويات، والحقيقة المرَّة المريرة أن كل ما نحتاجه هو أولويات ملحَّة لحياةٍ عاديةٍ كريمة.

ـ هنا نحن الآن نتجوَّل بأمان من الجبل للساحل. وقد حان الوقت بأولادنا أن يتعرَّفوا إلى كل الوطن بعد طول انتظار.

ـ أنا لست خبيرة مشاريع ولا ضليعة موازنة، ولكنني مساهمة فعالة في الصمود بانتظار انتهاء ورشة الإعمار. أنا مواطنة عاشت الحرب والدمار ككل اللبنانيين وأستطيع أن أطمئن إلى أن القضاء والديمقراطية والحرية بخير، وأستطيع أن أرى أنَّ جميع الطرق المقفلة والمحفَّرة التي تصادفنا كل يوم هي ليست حفر قذائف وإهمال بل حفريات لإعداد شبكة الطرقات والبنية التحتية المهترئة.

ـ لقد شاهدنا طرقات وساحات أُهِّلت، وعادت جميلة وواسعة وقد زُرعت جوانبها.

شاهدنا ترميم الجسور المضاءة والأمينة.

وشاهدنا شرطة سير تنظِّم المرور، كما اللافتات التي تدل على كل الاتجاهات.

من زمان لم نرَ أعمدة كهرباء بالشارع مضاءة، ومن زمان لم نرَ كنَّاسين ينظِّفون الطرقات.

كما هناك مشروع لتكرير النفايات.

والآن مبانٍ للأونسكو والإدارات العامة والوزارات في حالة ترميم وتعمير.

ونرى بأمِّ العين بداية إعمار وسط بيروت التجاري المهدَّم المهجور بعد مهرجانٍ ضخم منظَّم جمع اللبنانيين على صوت فيروز الذي طال شوقنا إليه.

كما المباني السياحية والفنادق تستعد للتجدد بعد إخلائها من المهجَّرين.

ونعرف أنَّ أكثر مهجري الجبل عادوا إلى أرضهم، إلى مسقط رأس أهلهم التي أبعدتهم الحرب والقهر عنها.

وهناك مشروع بتفعيل أراضي الدولة بمشروع سكني يؤمِّن السكن للشباب والجيل الجديد.

ـ وهناك دعم لتطوير الجامعات وتدعيم وتجميع المدارس، وسيكون لنا مستشفى حكومي من أرقى المستشفيات وُضع حجر الأساس له، وشبكة الهاتف في تحسن مستمر ودائم.

وهناك مشروع للكهرباء في الشمال والجنوب.

ـ يعجبني في بعض اللبنانيين المنتقدين قولهم: شوفو أميركا شو عم تعمل، شوفو أوروبا شو عملت…

ـ يعجبني هؤلاء الناس “مع كل إيماني الكبير بالإنسان اللبناني” يعجبني أنهم يعتبرون لبنان كالدول الكبرى.

شكراً لإحساسهم هذا. ولكن مع الأسف بلدنا صغير ومداخيله قليلة، ونحن في منظار الدول الكبرى عالم ثالث، وقد رزحنا تحت وطأة حربنا الأهلية خمس عشرة سنة.

ـ كل هذا والناس تنتقد وتحاسب الدولة ورئيسها والوزراء.

ـ وحتى لا ننسى أنَّ مناطق الشرق الأوسط تمر بظروفٍ دقيقة وتحديات مجاورة ومتغيرات كبرى. ولا أعتقد أن المقاومة العسكرية على حدود الوطن تقلُّ أهمية عن المقاومة المدنية داخل حدود الوطن.

الخوف كل الخوف لو تغيَّرت الحكومة أن تتوقف هذه المسيرة الإعمارية ولا يبقى من العمر يومان لنرى لبنان كما نحبُّه أن يكون.

ولكن لا خوف على شبابنا الذي تتولَّى مؤسسات الحريري مساندته وتأمين العلم له لأنها باقية لهم ولأبنائهم.

نشرت في مجلة “الأفكار” عام 1998

زر الذهاب إلى الأعلى