قمر في ساقية إهدن
كنَّا عائدين إلى المنزل أول الليل، حين التفتت حفيدتي راوية إليَّ وقالت: “تيتا، أنظري إلى القمر، يمشي معنا حين نمشي ويتوقف عندما تقف السيارة. ولكن حين ندخل إلى البيت إلى أين يذهب”؟
أجبتها أنه يُكمل مشيه مع الناس على الطرقات، يدور، ثم يعود إلينا في الليلة التالية.
وسكتت راوية، وبدأ حديث الذكريات بيني وبيني. كنَّا صغاراً، وكنَّا نرى القمر يمشي معنا. وذات ليلة سألت جدَّتي السؤال نفسه، وأتبعته بآخر: “أين تذهب الينابيع؟ وهذه الساقية التي كانت تمشي معنا من نبع مار سركيس في إهدن، أين تذهب حين نصل نحن إلى البيت”؟
قالت جدَّتي: ” إلى البحر”.
تلك الساقية بالذات، كنت أحبها، وحزنت كيف، وهي العذبة الرقراقة الصافية، تمشي طويلاً حتى تغرق في البحر وتغمرها المياه المالحة. وهل البحر يريد ماءً أكثر مما فيه، حتى يبلع الساقية العذبة؟ ليس في حاجة إلى ماء، السمك لا يحب أن يشرب من ساقيتنا، ولا نحن نحب أن نشرب من البحر.
وحلمت لو أنني أذهب مع أهلي وأترابي، ننتظرها قبل أن تصل إلى البحر، ونعبئ مياهها في أباريق وجرار وطناجر كبيرة.
وحين كبرت، عرفت أنَّ بلداناً كثيرة تنتظر مياه ينابيعها وأنهارها قبل أن تصل إلى البحر، فتملأ بها خزانات ضخمة، وسدوداً توقف المياه وتحضنها لأهل الأرض. وكنت أحسد تلك البلدان الغنية بالمياه، وأشفق على ينابيعنا العظيمة الغنية العذبة المهدورة.
وحين كبرت أكثر، عرفت أنَّ البلاد الغنية، ترسل مركباتها الفضائية إلى ما بين الكواكب والأجرام، بحثاً عن مياه لعلَّها في الألف الثالث تضمن أن يشرب أهلوها وترتوي أراضيها.
ونحن… في بلد صغير مسروق المياه من بحره وبعض أنهاره، يشرب بفم صغير، ويترك للبحر ابتلاع خيرات هذا العصر “المتلهف” إلى نقطة ماء.
إلى أن جاءني الخبر الحلم أخيراً: الدولة تسعى جدياً إلى إقامة سدود في لبنان. وفرحت كثيراً لهذا المشروع وتذكرت ساقية إهدن، وكيف أنها لن تسير وحدها طويلاً في غربتها فيبتلعها البحر، بل ستبقى لنا ولن تذهب هدراً.
ستبقى لراوية وقمرها، وبعدها لابنتها. ويجيء يوم تصبح فيه راوية جدَّة، وتواجهها حفيدتها بسؤال عن القمر، لكنَّها حتماً لن تواجه سؤالاً عن ساقية تذهب إلى البحر.
—
نُشرت في جريدة ” النهار” بتاريخ 28/5/1999