دولاراتنا على قارعة الطريق
يافعة سمراء، أغدقت عليها الشمس اسمراراً داكناً، والطريق غباراً مكرراً.
بيمناها تجرُّ عجوزاً ضريراً غطَّى رأسه المشيب، وغطَّى القدر عينيه بالسواد. وبيسراها تستعطي له من أرتال السيارات المتوقفة على الإشارة الحمراء عند “خيام الهنا” على كورنيش المزرعة.
الإشارة الحمراء (وتتمنَّاها أن تظل حمراء) فرصتها للعمل بالاستجداء.
كل يوم أراهما، وككل الناس، قلبك يغص، وعينك تدمع، ثم… ألف ليرة أو خمسمئة، أو… “ما في فراطة”.
أمس، تساءلت: أيكون هذا العجوز جدّها؟ أم هو مجرَّد “عدَّة شغل”؟ هل وراءها مؤسسة تجمع فتاة وعجوزاً ضريراَ لـ”تكتمل الصورة” على كل إشارة حمراء في العاصمة؟ مأساة. وثمة حشد مماثل من أولاد المآسي عند مفترق “أبراج” (فرن الشباك)، توزعهم سيارة كل صباح، وتستعيدهم آخر الليل.
حدَّقت إلى الفتاة أمامي بنظرة مجرَّدة من العواطف والإشفاق. ما مصيرها بعد سنتين أو ثلاث على الطرقات؟ وهذا العجوز الأعمى، ألا يصيبه الإرهاق من الوقوف في الشمس صباحاً حتى المساء بين دخان السيارات؟ أما آن له أن “يتقاعد” في بيته؟
أليس من مؤسسة أخرى كالتي تنقلهم صباحاً ومساءً تتولَّى إيجاد عمل لهما؟
أليس من الأجدى لفتاة في سنِّها أن تعمل خادمة (أو “صانعة”) في منزل، فتتعلَّم أصول النظافة والترتيب والتهذيب والتنظيم، بدلاً من فيليبينية فيه أو سريلانكية؟
إنَّ كلمة “صانعة” (ونادراً ما ننتبه إلى معناها) تعني أنها “تصنع” شيئاً تساعد به سيدة المنزل في إعداد الطعام، وترتيب الأسرَّة، وتنظيف المنزل، ومساعدة الأم في شؤون تربية الأطفال.
وبدل أن تكون مشرَّدة في الطرقات، أليس عملاً مفيداً أن تشارك سيدة البيت اللبنانية في إعداد منزلها وتربية أطفالها ومشاطرة العائلة المأكل والمسكن والتصرف اليومي؟ أليس في هذا إعدادها للحياة، يحفِّزها لاحقاً على تكوين أسرة أفضل من عائلة تأتيها من الشوارع وتعود لترميها في الشوارع؟
وهل عمل “الصانعة” في المنزل عيب، أم هو إعداد و”تأهيل” لسلوك أفضل؟ والإنسان يعيش حياة طبيعية في كنف أسرة متعلِّمة مثقفة، عوض أن نصرف دولاراتنا على استيراد “صنَّاع” من الفيلبين وسريلانكا وأثيوبيا، وأن نعطيها صدقة لفتيات لبنانيات على قارعة الطرق؟
—
نُشرت في جريدة “النهار” بتاريخ 30 حزيران 1999