كأنَّه الفرح بالعيد
لم أجد، كي أبدأ خاطرتي، أبلغ من شذرات في “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب:
” مطر… مطر… مطر…/ كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء/ دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف/ كنشوة وحشية تعانق السماء/ كأنَّ أقواس السحاب تشرب الغيوم…/ مطر… مطر… مطر…/ كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام/ بأنَّ أمّه التي أفاق منذ عام/ ولم يجدها… ثم حين لجَّ في السؤال/ قالوا له بعد غد تعود…/ لا بد أن تعود…
وها هي الأم عادت إلى طفلها… لبنان.
لطالما أحببت المطر منذ صغري، عكس أكثر أترابي في المدرسة. وطالما استمتعت بهطوله في غزارة العطاء الآتي من الأعالي.
هذا الخريف، أراني أعشق نقطة الماء، النعمة الآتية من الغيمة، وأحس أن ما أروع المطر بعد صيفٍ قاسٍ حار طال دهراً، حتى حسبنا أنه لن يجيء بعده الشتاء.
في هذا الصيف الحار، رأيت “البردوني” شحيحاً، متعباً في مجراه، يراوح مكانه.
ورأيت : نهر إبراهيم” ملَّ المسير، وبات يدور على نفسه.
وعتبت على نظري حين جال على نهر الكلب عند خروجه من مغارة جعيتا، متعباً منسحباً من الحياة، عارياً تماماً، كأنَّه ينتظر نهراً لم يأتِ منذ دهور، لم تلبس ثوبه المياه، بل لبسته كآبة جافة حتى القعر، حتى القهر، حتى العقم والاعتلال.
ثلاثة أنهار عاينتها وحزنت… حزنت حتى العطش والجوع على تربتي ووطني، وتساءلت في سرّي، هل كانت السماء قبلاً تمطر في لبنان؟ والحقول، هل كانت حقاً تزهر الحقول؟
في طفولتي، كان المطر يشتل بي حزناً سعيداًَ كالحب، كالثمالة الشفيفة، وكان انحباسه يؤرقني، فأسأل الليل عن نسمة تحمل غيمة حبلى بالغيث، بالخير، بالعطاء.
قبل أيام، هطل مطر تشرين، كفعل إيمان، كفعل نعمة، كفعل بسمة على ثغر تربة وطني، فهرعت أصلِّي، وأرفع دعاء الشكران. هل تعلمون أنَّ للمطر صلاة خاصة اسمها “صلاة الاستسقاء” تُقام في دول عربية مجاورة، تضرعاً لنزول الماء من السماء، للزرع، للأرض مسكننا نحن البشر، مسكن الإنسان الوحيد “حتى الآن”؟
في لبنان لم أسمع أنَّ أحداً فينا يصلِّي “استسقاء المطر”. فلماذا لا نصلِّي لواهب النهمة والخير، واهب القمح والزيتون، واهب التين والعنب، واهب التمر، واهب الحياة للبشر، وجميعنا مؤمنون بعظيم عطائه وكرمه؟
بعد هذه الكلمات وما فيها من إحساس انتابني قبل أيام عند هطول المطر، كأنه الفرح بالعيد، فرح نابع من وجداني وقلبي، نابع من انتمائي إلى تربة أنبتتني وأنبتت الجدود والأحفاد، تمنيت لو تكون السدود الموعودة أصبحت ناجزة وحاضرة لتحضن ودائع السماء تخبئها كنزاً لنا ولأرضنا!
لكن السدود لن تكون جاهزة قبل سنة، سنتين، وربما أكثر، وفي انتظارها، ستظل تهدر أنهارنا وينابيعنا وسواقينا (حتى ساقية إهدن وقمرها) وستذهب حزينة إلى البحر، وسوف تنتظر الشتاء، ولاستقباله تتحضَّر، فنكون حضاريين في استقبال المطر الآتي من الأعالي (” وجعلنا من الماء كل شيء حي” ـ قرآن كريم).
إنَّ الماء يحيي الإنسان فلماذا لا “تتحضَّر” البلديات في كل لبنان لتنظيف مصارف المياه من تراكمات الصيف وأكوام اليباس، كي تصح مجاري المياه قادرة على استيعاب “بحيرات الشوارع” التي تعوَّدنا أن نراها أول كل شتاء، تقطع الطرقات بين المناطق، وتطفئ محركات السيارات وتعوق “أوتوكارات” المدارس، فتحبس الأطفال والتلاميذ دون الوصول إلى ذويهم، وتؤخِّر رجال الأعمال والموظفين والعمال عن الوصول إلى مراكز عملهم؟
منذ أعوام طويلة ونحن نفاجأ بالسدود على الطرقات تعوم بالمياه،ولا تصريف لها، وتعرقل خطوط السير في العاصمة والضواحي.
هذه السنة لن نقبل أن تغوص شوارعنا في البحيرات، وتغرق في المياه، ويصبح فصل الشتاء عندنا لعنة بدل أن يكون نعمة.
هذه السنة، ستقف حفيدتي راوية إلى شباك غرفتها في البيت، وتراقب المطر المطقطقة نقاطه على زجاج النافذة، وتفرح… تفرح… مثلما كانت طفلة في عمرها تفرح، قبل أعوام طويلة على شباك نافذتها في حي هادئ من طرابلس، وتستقبل المطر، حاملاً إليها رائحة الخير والعطاء، فينتابها حزن سعيد كالحب، ويغمرها إحساس بالفرج كأنَّه الفرح بالعيد.