جريدة النهار

مش كان هيك تكون

وبالتأكيد ” لم نكن هكذا قبلاً”. وبالتأكيد تغيَّرنا، وأسرعنا في التغيير والتبديل وقلب المفاهيم، وتغيَّرت الناس والأحوال. عصر سريع نعيشه، عصر مختلف عن كل العصور. فسكان الأرض ارتفع عددهم منذ مطلع القرن العشرين من مليون وستمائة مليار نسمة إلى ستة مليارات، وهم في وهم في سرعة تزايد لا مثيل لها في التاريخ وأعود لأقول باللبناني “مش كاينين هيك نكون على الأرض أصلاً”.

وبكل بساطة أحببت الكاسيت الجديدة “مش كاينين هيك نكون” وقُبلة لعيني فيروز وزياد.
الأغنية العنوان هي بالذات التي أربكت السامعين وأربكتني حتى الرفض لكلمات الصالون، البلكون، الصابون، الكميون… ولو اقتصرت على الزيتون الشجرة المباركة لكان وقعها أرق لعاشقي فيروز مع ولدها زياد.

والحقيقة أنَّ الليمون قد تغيَّر طعمه، والكميون بأبواقه أصبح مصدراً راعياً للحوادث القاتلة كل يوم، وضاقت المباني بساكنيها، والبلكون تلوَّث بالهواء الوسخ.
كلمات نقولها، نعيشها، حالة حياتية يومية، وأزيد على الأغنية أنَّ الجزر كان لونه أصفر عندما كنَّا أطفالاً، حتى رائحة الخيار وطعمه تغيَّرا.
اليوم تذكَّرت أغنية من أجمل أغاني الأخوين رحباني لم يزل صداها في مسمعي تقول: “هيك مشق الزعرورة يا يوما هيك”.
لنفترض أنَّ أحد أبناء هذا الجيل الجديد من الشبّان سمع هذه الأغنية، فسيطرب للحن، ولكن هل سيعرف ما معنى “مشق” أو هل سيفهم ما هي الزعرورة؟
سأصف لكم الزعرورة، هي ثمرة صغيرة جداً كحبة الفستق لونها أحمر جداً جداً وله نكهة خاصة لا تشبه نكهة أي ثمرة أخرى. لم نعد نرى الزعرور على الشجر إلاَّ نادراً ولا حتى عند بائع الخضر. نستطيع أن نجده مثلاً عند “غوديز” في موسمه القصير جداً جداً.

إذن لنقل أن لكل عصر نكهته في التعبير، حتى الحب هذه الأيام لم يعد كما كان، الحب هذه الأيام أصبح نادراً جداً جداً كحبة الزعرور.
ونظرة الحبيب تبدَّلت لأنها تدعو الحبيبة إلى كل شيء ما عدا الرومانتيكية والوفاء.

زياد رحباني أصبح مسؤولاً عن واقع متحرك، سريع، وواقع جنوني يتجدد في كل لحظة، وهو يكرر مع فيروز ما صاغه الرحابنة.

وعظمة الرحابنة لن تتكرَّر، فهي ثابتة، متكاملة، وحاضرة لا تغيب. فلندع زياد يعطي ما عنده الآن. ولندع فيروز تتواصل مع الأجيال، فيروز لن تتوقف وتصبح من الماضي.
فيروز لم تتخلَّ عن التراث ولا عن الشعر القديم. فصوت عاصي في هذه الكاسيت الجديدة جاء ليزيد الحنين إلى الطرب اللبناني النكهة واللحن في “جاءت معذبتي”. وفيروز أسمعت أيضاً وأطربت بـ”ولي الفؤاد” وختمت بروعة الكلمة في الشعر القديم ” وعجبت كيف يموت من لا يعشق”. وسمعنا شعر قيس بن الملوَّح بصوتها ” أحب من الأسماء ما شابه اسمها”.
أما “سلملي عليه” أغنيتي المفضلة في الكاسيت ففيها اشتياق ودمع لمهاجر، لحبيب بعيد، لأولادنا المتشردين في بلاد الغربة.
” لو تعلمين بما أجن من الهوى” شعر قديم أحياه زياد من جديد بصوت فيروز ليردده شبابنا، ومَنْ أقدر من فيروز وزياد على إيصال هذا الشعر الرسالة إلى أولادنا؟
كل هذه الأغاني التراثية الصحيحة لم نعد نسمعها، ولا نستطيع حتى الحصول عليها، وكادت أن تصبح طي النسيان.
أما أغنية ” ضاق خلقي يا صبي” فهي يومية، حياتية، و”بتفش الخلق”، وهي بكل جدية هازئة بكل الصبيان الذين أصبحوا يضيقون الخلق، صغاراً وكباراً.
وأعتقد أنَّ فيروز تقصد زياد لأنه عصبي، وهي أيضاً!!!

و”قمح” آخر الكاسيت موسيقى رائعة، على الكمان سيمون شاهين، وبسام سابا “ناي وعود”، فيها من شرقنا كل الحنين والحزن والنواح الذي يتربع في حنايا الشرق المكبوت.
وأخيراً، الشعر باقٍ والتراث باقٍ والرحابنة باقون. وزمن عاصي الرحباني باقٍ ولن ينتهي.


نُشرت في جريدة “النهار” بتاريخ 1/11/1999

زر الذهاب إلى الأعلى