في حياة كلٍّ منَّا محطات وخطوط ومراحل، ومفارقات تحفر في ذاكرتنا خطوطاً لا تنسى، حتى تصبح جزءاً من شخصيتنا مولوداً معنا. وثمة أحياناً محطة منها تحفر الذاكرة وتغيِّر مجرى العمر، فتقلب نظرتنا إلى الحياة في اتجاه ونهج مختلفين، لتروح الذاكرة، في كل مرحلة، تستعيد ما أعطتنا الدنيا من فرح وبهجة، ومن عذابات ومرارة.
في الذكرى الثالثة عشرة لاستشهاد زوجي “الدكتور فاروق نجار”، اختليت بنفسي أسترجع سنوات حسبتها ألف عام. مرحلة جميلة وقصيرة، كنَّا فيها معاً زوجين صديقين بكل عمق الصداقة، كل منَّا يُكمل الآخر حرفياً: هو الزوج الرجل والأب، وأنا الزوجة الأنثى والأم، وكنّا متكاملين تماماً.
ومرَّت أعوامي “الألف”، تسلمت خلالها دور المرأة الأم، وذاك الدور الآخر الذي كم قاسيت كي أقوم به: دور الأب الحاضر الغائب في المنزل، في المجتمع، وفي الوطن.
وتصوَّر لي كما في الحلم ( وأنا غالباً ما أحلم أنه عاد) فافترضت: ماذا لو عاد؟ هل سيجدني الزوجة نفسها التي رحل عنها منذ زمن؟ هل سيقبلني كما بتُّ اليوم؟ هل سيرفض شخصيتي المزدوجة؟ (“أخت الرجال”، بالتعبير السائد عندنا) وهو ما كان يكره؟ هل سيفخر بي؟ أم سيشيح بوجهه عن امرأة “غريبة” لم تعد تمت بأية صلة مع أيامه الماضية وعمره القصير؟
أنا تغيَّرت، نعم. غيَّرتني الحياة. وهذا الواقع “الطاحون”، أجبرني مكرهة على أن أتبدَّل، فألبس شخصية نزفت دماً ودموعاً ومعاناة، كي أكمل مشواري وحدي مع أسرتي الصغيرة، وعشقت وطناً ذا تراب ارتوى بدماء زوجي يوم استشهد. ولو عاد اليوم يسألني عن أولادنا، أتراه (كما أرجو) سيرى أحلامه تحققت فيهم؟
وتوسعت في خلوتي تلك، أبعد من أسرتي وكياني، أبعد من حضن بيتي، إلى حضن أكبر وأعظم، إلى حضن الوطن: ماذا لو عاد الشهداء يسألوننا اليوم عن الوطن، وما إذا كنَّا لبسنا لباس الوطنية الحقيقية،أم ما زلنا عراة معرضين للطائفية، مروضين للمذهبية؟ ماذا لو عادوا، واستحلفونا بدمائهم التي ضاقت بها أرض الوطن، يسألوننا عن أخيار الوطن؟ كيف سنخفي ـوجوهنا منهم؟ وأين؟ في التراب؟ تراب وطن مجبول من صحوة شبابهم، وحنان قلوبهم، من رقة عيونهم، ولهفتهم على مستقبله؟ أنقول لهم أنَّ دماءهم هدرت سدى، لأننا ما زلنا غائصين في رمالنا المتحركة، عصبيات مذهبية ودينية؟ أنقول لهم أننا ما زلنا في وطننا أقليات، وهذا ما يحزنني حتى التقيؤ، حتى الغربة، والغربة في الوطن أقسى من غربة القبر.
أقليات نحن؟ كيف نكون أقلية في وطننا وعلى أرضنا، ونحن أبناء تاريخ مجيد وحضارة عظيمة؟ كيف ونحن أحفاد من علَّموا الحرف واخترقوا البحار؟ كيف ونحن أبناء جبيل مهد الأبجدية، وبيروت أم الشرائع؟ كيف ونحن أهل صيدا وطرابلس وصور وبعلبك وقانا؟
اليوم اليوم، بدمائكم يا شهداءنا الأبطال، بشرفكم وكرامتكم، فلنخترق حجب الطائفية السياسية، ونعلن ولاءنا ووفاءنا وانتماءنا له، وحده، للبنان الواحد الموحَّد الوحيد، ولنكن أكفياء به وأوفياء له، كي نستحق جماله وترابه وتراثه، ولكي نستحق أن يفتخر هو بنا ويقبلنا على أرضه وقد أعدناها طاهرة من كل دنس.
فلنحبه ونحن على أرضه، لا ونحن بعيدون عنه، يشدنا إليه الحنين.
فلنحبه ونتمسك بكل شبر منه حراً أنوفاً، قبل أن ينتقل مصير شهدائنا إلى أحفادنا، فنكون قدَّمنا للقدر لا أولاداً وأحفاداً، وإنما… مشاريع شهداء.
فاروق، في الذكرى الثالثة عشرة لاستشهادك، ها أنذا كما أنا اليوم.
ماذا لو عدت إليَّ اليوم؟
—
نُشرت في جريدة “النهار” بتاريخ 3 آذار 2000