جريدة النهار

شاهد القرن حضر بيننا

هوذا بيننا شاهد القرن العشرين كاملاً، الدكتور نقولا زيادة.
وُلد عام 1907، ولا يزال إلى اليوم ـ أمدَّ الله بعمره ـ كامل الإنتاج كتابة ومحاضرات ومشاركات في ندوات لبنانية وعربية وعالمية، على ذاكرة، ما شاء الله، عجيبة متوهِّجة متوقِّدة حاضرة كما في أول الشباب.

وأظنني اليوم، فقط اليوم، أستطيع أن أحدِّد هذا الشعور العامر بالحبور والسعادة، تملكني عندما تلقَّى صديقي الكبير الغالي نقولا زيادة دعوة من الدكتور محمد عبد الحليم للمشاركة في إلقاء محاضرة ضمن مؤتمر عن القرآن الكريم نظَّمه مركز الدراسات الإسلامية في جامعة لندن.
أما لماذا أستطيع اليوم أن أحدِّد شعوري، فلأربعة:

1 ـ لأنَّ الدعوة جاءت من الدكتور محمد عبد الحليم، العربي المصري المسلم، إلى الدكتور نقولا زيادة المؤرخ العربي الناصري المسيحي، لإلقاء محاضرة بالإنكليزية عن القرآن أمام حشد من الأوروبيين والعرب.
2 ـ لأنَّ الدكتور زيادة اختار لمحاضرته موضوع “سورة مريم في القرآن الكريم” وكانت المحاضرة المفردة الوحيدة بين مجموع ندوات متعددة الأصوات طوال يومين.
3 ـ لأنَّ الدكتور زيادة هو ابن الناصرة في فلسطين، المدينة التي أنجبت السيدة العذراء مريم والدة السيد المسيح عليه السلام.
4 ـ لأنَّ الدكتور زيادة قال في محاضرته أنه أحبَّ هذه السورة من القرآن الكريم ولم يكن تجاوز الثانية عشرة بعد، حين كان في مدرسة جنين (فلسطين)، التلميذ المسيحي الوحيد في حصة درس الدين الإسلامي. فكان أستاذ الدين يخيِّره في الخروج من الصف إذا أراد، لكن التلميذ نقولا لم يكن يخرج لأنه كان يحب صوت المعلِّم الشجي بتلاوته القرآن الكريم، فدخل مسامعه الصغيرة في عذوبة وانجذاب كبيرين. من هنا كان يصر على حضوره الدائم درس القرآن.

في لندن، وفي محاضرته، قال الدكتور زيادة، “في سورة مريم ورد ذكر لتسعة أنبياء، فالله، سبحانه، كان يرسل الأنبياء لإرشاد البشر وهدايتهم على دفعات متتالية، لحفظهم من الشر الذي يصيب الإنسان بسبب ضعفه ومطامعه، مما يؤدِّي به إلى الضلال”. وأشار الدكتور زيادة إلى أنَّ
“في سورة مريم، على قصرها، عجائب كثيرة، مثل أعجوبة زكريا الذي وهبه الله ابناً بعدما بلغ المئة والعشرين من العمر، وامرأته كانت عاقراً وفي نحو المئة من العمر، أو كأعجوبة أن تلد السيدة العذراء طفلاً من دون دنس “فلم يمسسها بشر ولم تك بغيا”. أو كأعجوبة أن يتكلَّم يسوع طفلاً وهو في المهد، فيقول: “إني عبد الله، أتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركاً أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرأ بوالدتي، ولم يجعلني جباراً شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا” (قرآن كريم)، وبعدها جاءت الآية الكريمة، “ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون”. (سورة مريم في القرآن الكريم).

لن أتمكَّن بالطبع من استعادة فقرات أخرى من تلك المحاضرة الطويلة، لكن الصديق ضياء الفلكي الذي كان بين الحضور في لندن، أخبرني أنها كانت محاضرة رائعة، حتى أنَّ الحاضرين من أوروبيين وعرب صفَّقوا له في نهايتها وقوفاً في تهيُّب وإعجاب.
تعود معرفتي بالدكتور نقولا زيادة إلى ثلاثة أعوام، يوم كنت بين الحضور في مركز توفيق طبارة (بيروت) وكان هو، من غير نص أمامه، بل ارتجالاً من الذاكرة، يحاضر عن ” التراب والتراث” بدعوة من جمعية “بيروت التراث”. يومها تحدث عن بيروت وترابها وتراثها، فبدا على المنبر رجلاً مهيباً كأنه يحمل بيروت كلها بين يديه، جامعاً في كفَّيه ذهب الكلمة ولآلئ الحقيقة التاريخية المجيدة.
وحين انتهت المحاضرة، وجدت أنني أمام ذاكرة تاريخية تختصر كتباً وتضيء عصوراً مضت، في شرح وافٍ ماتع وبسيط، وظرف طريف يحبك الأحداث التاريخية جامعاً متسلسلاً بين دهور غابرة.
في فقرة الحوار، نهض رجل دين مسيحي يسأل المحاضر: “كم تبعد قانا ـ أو كفركنا ـ في فلسطين عن بلدة الناصرة؟ فأجاب الدكتور زيادة: “عشرة كيلومترات”. فعاد الـ”أبونا” إلى السؤال: “وكم يحتاج قاصدها من الوقت كي يعبر بين الناصرة وقانا؟” فقال المحاضر: ” إلى ساعتين من المشي”. وهنا انفرجت أسارير الـ”أبونا” وصاح في القاعة: “إذن، عندما يقولون أن المسيح مشى من الناصرة إلى قانا ثلاثة أيام، فهم يقصدون أنَّ المسيح وصل إلى قانا الجليل في جنوب لبنان”.
في تلك اللحظة، انفجرت القاعة كلها بتصفيق طويل مؤثِّر وبدا عدد الحضور مضاعفاً كأنَّ اللبنانيين جميعاً حضروا إلى القاعة مصفِّقين لتلك الحقيقة صارخين: ” ها هي الأعجوبة الأولى من المسيح جرت على أرضنا، قرب صور، في قانا لبنان”.

منذ ذلك اليوم وتلك المحاضرة، صرت صديقة للدكتور نقولا زيادة، وكم أفخر بهذه الصداقة المكتنزة بالمعرفة.
بعد فترة أهداني كتابه “أيامي” (سيرة حياته في جزأين موسوعيين) وفيه أنَّ والديه فلسطينيان من الناصرة، وهو ولد يوم 2 كانون الأول 1907 في دمشق (حيث كان والده يعمل ضمن قسم الهندسة في مشروع سكة حديد الحجاز أثناء إنشائها). وكان شبابه الأول في فلسطين (1916 ـ 1925)، ثم في لندن، وهو منذ 1949 في لبنان حتى اليوم، ولم يعد يحد عمره شباب ولا كهولة ولا مشيب، فكأنه صار خارج دائرة السنين.

قبل ثلاثة أسابيع، احتفلنا بعيد ميلاده الثاني والتسعين، كان دعاء أصدقائه أن يظلَّ في شبابه ومشيبه، وكان دعاء صديقاته، وأنا واحدة منهن، أن يظلَّ على عافية ذهنه الوقَّاد، الحاضر النكتة، السريع البديهة، على بسمة بريئة تشيل برائيها في سحابة محبة في آخر الدنيا.


نُشرت في جريدة ” النهار” في 6 كانون الثاني 2000

زر الذهاب إلى الأعلى