جريدة النهار

الدنيا لا تزال بخير

لم أكن أتوقَّع أن يكون للمقال الذي نشرته في “النهار” الأربعاء 31 آذار 2004 بعنوان: “مشهد لا يصدَّق على كورنيش البحر” أن يُحدث هذا الوقع، بل الدويّ. كان يكفي أن أكتب ببساطة أني شاهدت بأمِّ عيني ستة أطفال يفترشون الأرض قرب مستوعبات النفايات على الأرض التي كانت مقر السفارة الأميركية. أطفال يغطّون في النوم في العراء، مكوَّمين بعضهم على بعض التماساً للدفء حتى تهتز مشاعر الكثيرين الذين قرأوا المقال.

ولم أكن أتوقَّع أن أرى القاضي عبد الباسط غندور المعروف بهدوئه، وهو يغلي سخطاً وهو يخبرني بما شاهد. وهو الذي دلَّني إلى المكان حيث كان ينام الأطفال بعدما أرشدته إليه السيدة نوال خليل.

وسرعان ما ظهرت نتائج انتشار الخبر الذي أوردته في المقال، فقد أرسلت السيدة نعمت كنعان المديرة العامة لوزارة الشؤون الاجتماعية مندوبتها ريتا كرم، التي حضرت في صباح اليوم التالي قبل شروق الشمس لتقصِّي الأمر والتحقيق. واتصل السيد إيلي مخايل من المجلس الأعلى للطفولة، وعلمت من القاضي غندور أنَّ مدير مكتب منظمة العفو الدولية اهتمَّ بالأمر أيضاً وأبدى استعداد المنظمة للتحرِّي عن علاقة الأمر بتحركات عصابات المتاجرة بالأطفال التي يضج منها العالم بأسره. وبناءً على إرشاد مندوبة وزارة الشؤون الاجتماعية ريتا كرم، وبمساعدة المربية رندة بشارة التي تُعنى بالأطفال المشرَّدين، اصطحبنا الأطفال إلى الجمعية الإنجيلية اللبنانية في الكحالة التي افتتحتها السيدة الأولى أندريه لحود عام 1999 والتي يتولَّى إدارتها السيد جان عتر (هو يسكن مع عائلته في نفس مبنى الجمعية وله بنتان وصبي، وقد أضاف إليهم بنتاً صغيرة تبنَّاها وسمَّاها هبة).

في هذه المؤسسة وجدت أطفالاً من جميع الجنسيات: من فلسطين وسوريا والشيشان وتركيا… ومن أفريقيا أيضاً. وناولت أحدهم ـ قال أن اسمه أحمد ـ كيساً من السكاكر وقد لاحظت في عينيه حدَّة الذكاء وتوقُّد الذهن، وقلت له: هذا الكيس لك وأنت تعطي من تشاء من أصحابك. فتركني وهرع يوزِّع محتويات الكيس على أصحابه!
وأخبرني أحد المسؤولين عن المؤسسة أنَّ بعض الأطفال يعمدون أحياناً إلى الهرب، وأنَّ واحداً من أطفال المؤسسة، يُدعى “هوسي” يتولَّى إقناعهم وحملهم على العودة.

هذا العالم البائس، الذي هو منَّا وفينا، والذي نحاول عبثاً أن نتجاهله ونغض النظر عن تعاسته، لا يزال يحرِّك في البعض منَّا مشاعر العطف والرحمة…
والدنيا لا تزال بخير.


نُشرت في جريدة “النهار” بتاريخ 6/4/2004

زر الذهاب إلى الأعلى