نحن شفينا وطننا من السرطان
كنت قبل أيام أتابع حلقة تلفزيونية أميركية من برنامج استضاف سيدة أميركية شفيت من السرطان لأنَّها قاومته برفضها إيّاه في حزم وحسم وقوة، وبإقناع ذاتها كل يوم أنَّها ليست مصابة بالسرطان، وبرفضها العلاج الكيميائي ومكافحة المرض بالتركيز الإيجابي والنفسي والفكري العميق (في كل ذرة من عقلها وقلبها وعاطفتها وتفكيرها) على الفرح وحب الحياة. وتابعت حياتها بكل هدوء وإيقاع يومي طبيعي حتى شُفيت تماماً من المرض.
أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أشاهد تلك الحلقة: شعبنا اللبناني، لو يعمل بكل ذرة في عقله وتفكيره وقلبه وإرادته على تحدي السرطان السياسي الذي يجتاح الجسم اللبناني، صارخاً بكل قواه معاً: “لا. لبنان ليس مريضاً بالطائفية ولا بالتشرذم السياسي”. وكنت في وسط هذا التفكير تحديداً لحظة رنَّ الهاتف وكان ابني على الخط يخبرني بأنه قرَّر المجيء إلى لبنان هذا الصيف كي يُمضي العطلة وعائلته معي في بيروت. أفرحني هذا الخبر بقدر ما أقلقني، فحاولت (عكس كل ما كان في قلبي من عاطفة وشوق إليه وإلى عائلته) أن أثنيه عن فكرته بأن يسافر وعائلته هذا الصيف إلى بلد آخر يُمضي فيه إجازته السنوية، لعلَّ الوضع الأمني يسوء (كما في الصيف الماضي) فلا شيء مضموناً حتى اليوم في صيف لبنان. تردَّد ابني في الجواب. عرض عليَّ أن أسافر أنا إليه وأسافر معه والعائلة إلى بلد آخر، إنما سرعان ما بادرني:
ـ لكنني اشتقت إلى لبنان. أريد أن أجيء إلى لبنان، ولا أريد أن أمضي إجازتي في بلد آخر. كيف يكون هذا: في فلسطين ليست العودة متاحة لأهلها، ونحن العودة عندنا محفوفة بالخطر. أنكون أصبحنا فلسطينيين، ممنوعة علينا العودة إلى بلدنا؟
ـ يا حبيبي، أنا لا أستطيع أن أسافر إليك. لو سافر كل أهل لبنان هذا الصيف عند أولادهم، لفرغ لبنان، نحن لن نترك. نحن “نواطير المفاتيح”.
ـ إذاً سنأتي يا ماما. إفتحوا لنا الأبواب كي نأتي ونردِّد مع منصور الرحباني بلسان جبران: “وطني بيعرفني، وأنا بعرف وطني”.
ـ وأولادك؟ هل سيعرفون لبنان؟ أم سيعرفهم لبنان؟
ـ أحلم أن أعود إلى لبنان ولو بسفينة نوح.
ـ قلوبنا يا حبيبي مفتوحة لسفينة نوح لكن أبواب قلوبنا تنزف من القهر. إنتظر يا حبيبي، لعلَّ معجزة تحدث وتأتي إلى قلبي وإلى لبنان من دون قلقي عليك وعلى صغارك.
ـ بل سأجيء يا أمي. يساوينا ما يساويكم. نحن سنكون بعدكم “نواطير المفاتيح”.
ـ طيب يا حبيبي. سأنتظرك، ومعي المفاتيح. وطننا بات اليوم لمتوسطي العمر. وأنتم شبابنا الذين نفرح لنجاحاتهم في جميع الأرض. أنتم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
قدرنا نحن أن نبقى هنا، وقدركم أنتم أن تكونوا هناك، في كل هناك. وإنما بكم جميعاً نشعر أنَّ جسم لبنان العليل هنا باقي سليماً في كل هناك، ومن هناك سيجيئنا الدم الجديد الذي يجعلنا نقاوم المرض ونؤكِّد أنَّ وطننا سيعيش ولن يخترقه السرطان.
—
نُشرت في جريدة “النهار” بتاريخ 26 حزيران 2007