الاعتذار سيِّد الفروسيَّة
نقبل اعتذاركم، نقبل توبتكم عن الاقتتال مجدداً. اعتذروا من الشهداء ومن الأيتام، والأرامل، والمفجوعين، اعتذروا من كل معاقي الحرب، اعتذروا من المخطوفين، اعتذروا من القابعين في السجون منذ العام 1975 أياً تكن هذه السجون.
اعتذروا من الشهداء الأحياء، اعتذروا من لبنانكم الجميل. ولأنَّه لم يبقَ سوى الاعتذار من دماء شبابنا الغالي ولأنَّ الشهداء والأموات لا يتكلمون نحن الشهداء الأحياء (وأنا من بينهم شهيدة حيَّة) نطالبكم بالاعتذار والتوبة عمَّا اقترفت أياديكم من مآسٍ خطفت النور من العيون التي أحببناها حتى العشق والهيام.
لنبدأ بالاعتذار من آخر الشهداء الأم والشاب من آل طبارة، هل مَنْ يعتذر؟!
قصة الرجل الستيني الصلب حسن طبارة الذي فقد زوجته وابنه الدكتور هيثم أمام عينيه في اليوم الأول من معارك بيروت الأخيرة. وجلس أمام سرير ولديه طريحي الفراش في المستشفى حيث عولجا من إصابتهما، منتظراً قيام ولديه أيمن ورائد بالسلامة وهما اللذان قبلاً كانا يسرعان لإنقاذ والدتهما وأخيهما الدكتور هيثم (دكتوراه في القانون الدولي في فرنسا. وحاصل على شهادة في التحكيم الدولي من جامعة “كامبردج”).
ولنعد إلى أيلول (سبتمبر) سنة1975 (مأساة البوسطة في شكا) ومن شهدائها شقيقي ابن السابعة عشرة. هل من يعتذر؟ بل يتوب إلى الله. ليتني أتذكَّر كل تواريخ المآسي والقهر، لكنت طالبتُ بكلِّ قطرة دم سقطت من أبناء وطني. قطرات دمائهم ملك خاص للبنان فقط وليس لحروبكم الداخلية البغيضة.
ولأنَّ إسرائيل لن تعتذر فهي عدوَّتنا اللدود. الاعتذار لن يعيد مئتي ألف قتيل للحياة، ولكن التوبة مقبولة عن عدم الاقتتال مجدداً. والله قابلٌ للتوبات، غافرٌ للذنوب (ومن غير الله يغفر الذنوب جميعاً…”. هكذا يقول القرآن.
لم يكن أخواي الاثنان في البوسطة بل كانا في سيارتهما وقد أُنزلا منها وتعرَّضا للرش بالسلاح. استشهد الصغير وبقي الأسمر الطويل القامة شاهداً على ما جرى وصار عمره تسعة وأربعين سنة وله عائلته، شاهداً على ما اقترفته أياديكم باسم الطائفية والمناطقية.
بل من ذا الذي يُعيد إلينا الشهيدين الشابَّين جبران تويني وبيار الجميِّل. وقد هبَّ المجتمع
الدولي وكل شرائح الشباب الوطني والعالمي مطالبين بالاقتصاص من قاتليهما، والأمر متروك للمحكمة الدولية التي يتسلَّم مهمة المدَّعي العام فيها المحقِّق البلجيكي “دانيال بلمار”.
بالله أسألكم من يُعيد الروح إلى الطفل زياد غندور “بل الزيادين” ومن يعيد الحياة لعيني شارل شيخاني الخضراوين؟! وهنا أعتذر من الذين استشهدوا ولا تساعدني ذاكرتي على ذكرهم.
مَنْ يُعيد الشابَّين إيلي سالم وسليم أنطون للحياة؟!
إيلي أتى إلى لبنان للقاء خطيبته واصطحابها إلى إيطاليا وسليم أنطون أتى ليلتحق كضابط في الجيش اللبناني.
اسمحوا لي أخيراً أن أطالب باعتذار لزوجي الدكتور فاروق نجار. مَنْ لا يعرفه؟! إنها “تراجيديا” حياتي.. وعمري. والاعتذار سيِّد الفروسيَّة.
وأيضاً اعتذروا لي فأنا أخذتُ نصيبي بسبع رصاصات ليست قاتلة هذه المرَّة.
وشكراً للمعتذرين وتحيا يا وطني الغالي.
—
نُشرت في مجلة “الأفكار” بتاريخ 8 كانون الأول 2008