في الصحافة

مأساة رشا نجار : الفلتان الأمني ذهب بزوجها الصيدلي فداءً عن بيروت

المساكن المنعزلة تبقى الأكثر تعرضاً للمخاطر. وحين تملَّك الصيدلي الدكتور فاروق النجار وعقيلته رشا المصري شقة في بناية قرب مبنى “سبينس” في مطلع السبعينات، كانت الدنيا أماناً، ومنطقة الرملة البيضاء واحة بيروت الغنَّاء، حتى قيل “هنيئاً لمن له مرقد عنزة في تلك المنطقة”. ومع ذلك فقد كان هناك إصرار عند البعض على أنَّ البيوت المعزولة، حتى في المناطق الفخمة، غير مشكورة، والإقامة في مناطق ممتلئة، حتى لا نقول مكتظة، حماية أدبية للسكان، بحيث لا ينزل كروه بأحدهم ـ حتى يكون الآخرون قد أحاطوا به وأنجدوه.

وقد بلغ حجم الأمان الذي عاشت فيه منطقة “السبينس” عام 1976، حتى في عز القصف المتبادل بين بيروت شرقية، وبيروت غربية، أنَّ الرئيس رشيد كرامي نزل ضيفاً على الدكتور النجار في البناية نفسها، بعدما أصبح سكنه في محلة “قبر الوالي” التابعة لمنطقة زقاق البلاط غير آمن، ووسط القصف والقصف المضاد.
إلاَّ أنَّ الأحداث التي عنفت بعدئذٍ وانتهت إلى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت الغربية عادت لتجعل من منطقة “سبينس” منطقة حرة وغير آمنة، فهجرها أكثر سكانها. ثم عادوا إليها ليصلحوا الأضرار، ويبدأوا مسيرتهم من جديد وكان الدكتور نجار وعقيلته وأولادهما الثلاثة طليعة قافلة التحدي، ومثلهم جارهم الدكتور طلحت اليافي رئيس مجلس إدارة المصرف الوطني للإنماء وإن كان الأخير قد تعرَّض لسرقة مجوهرات منذ بضعة أشهر، فيما كان غائباً عن الدار.
وهكذا مقابل وجود طبقة من الأغنياء في الرملة البيضاء، نشطت عصابات السرقة، وساعدها على ذلك وجود السلاح في الأيدي، وحين يروج سوق السلاح غير الشرعي لا تسل عن الأخلاقيات.

ومن سوء حظ رجل مثل فاروق نجار أن يستشري الفلتان الأمني في منطقته يوم الأحد الماضي بفعل حمَّى الرعب التي عاشتها العاصمة، أي قبل ساعات من وصول قوات الردع السورية إلى مشارف بيروت، ويكون هو الضحية، بل الشهيد، وتكون زوجته جريحة في غرفة العناية الفائقة.

ماذا حدث بالضبط؟
الدكتور نجار، بحكم تركيبته الوفاقية، لم يكن يفرِّق بين منطقة شرقية ومنطقة غربية، ويعبر بين المنطقتين كما يعبر من بيته إلى بيت أي صديق. وقد انتخب مؤخراً عضواً في مجلس نقابة
الصيادلة، وكانت الصيغة أن تكون الصيدلية المعرفة الدكتورة بولاند بدر هي نقيبة الصيادلة، ويكون الدكتور فاروق نجار هو نائب النقيب، وكان منتظراً أن يتوجَّه صباح الثلاثاء الماضي مع محامي النقابة الدكتور زكي مزبودي نائب بيروت إلى منطقة الشرقية لإتمام انتخابات المكتب الإداري ولكن الرجل فؤجئ يوم السبت الماضي بأنَّ أسلاك تلفونه مقطوعة، وأنَّ بعض المسلحين هم وراء الحادث، بقصد استخدام خطه في بعض الإتصالات. ولمَّا أبدى احتجاجه قيل له أنَّ القطع كان لمنع اتصاله بالمنطقة الشرقية.
وأجرى الدكتور نجار اتصالاته اللازمة ذلك اليوم لحل هذا الإشكال، وطلب صديقه المهندس عاصم قانصوه ليساعده على استرجاع خطَّيه التليفونيين، ولكن الأمين العام لمنظمة حزب البعث في لبنان كان متغيِّباً في دمشق وقرَّر الدكتور الصيدلي أن يرجئ الأمر إلى اليوم التالي. واستأنف حياته الطبيعية كما لو أنَّ شيئاً لم يكن. وكان ليل السبت الماضي قد توجَّه مع زوجته وأولاده إلى مربع “ليالينا” في فندق “سمرلند”، وكان حريصاً على تفقًُّد كل الأصدقاء، كما لو كانت حاسته السادسة تنبِّهه إلى أنه يشاهدهم لآخر مرة.

فصباح اليوم التالي دهم مسلحون منزله وخطفوه، فيما سدَّد مسلَّح آخر رصاصتين بمسدس كاتم للصوت إلى خدَّي زوجته رشا. وتوارى المهاجمون مصطحبين معهم صاحب البيت. فيما تحاملت زوجته على نفسها وسارت باتجاه منزل صديقتها ناديا منصور في البناية التي يقيم فيها المهندس عاصم قانصوه، وتعاونت ناديا مع السيدة بشرى قانصوه على إسعاف الصديقة المصابة، ونقلها إلى مستشفى الجامعة الأميركية على جناح السرعة حيث أُجريت لها عملية إنقاذية استغرقت ساعتين. ولمَّا صحت السيدة رشا من التخدير الجراحي، ووجهها ملفوف بالضمادات، كان أول ما فعلته، وهي غير القادرة على الكلام، أن طلبت من صديقتها ناديا منصور ورقة وقلماً، وراحت بيدها اليسرى غير المصابة ترسم العبارة الآتية: فاروق مخطوف.. ما هي أخباره؟

وافتعلت صديقتها والموجودات معها الابتسامة وهزَّة الرأس المطمئنة، وظللن حريصات على حجب رشا عن المأساة التي حصلت بعد ذلك. فقد وُجدت جثة زوجها مربوطة بالحبال، وآثار رصاصة قاتلة بين عينيه، خلف منزله تماماً، وجرى نقلها إلى براد مستشفى الجامعة، من غير أن تدري الزوجة المسكينة، أنها في الطابق العاشر، وأنَّ الزوج جثة هامدة في مشرحة الطابق الأرضي.. وكانت قمة المأساة!!
وقد أحدث مصرع فاروق نجار هزَّة في أوساط بيروت وطرابلس (مسقط رأس الزوجة)، وأقفلت مئات الصيدليات استنكاراً للحادث. وكان الثمن الذي دفعته رشا لمأساة بيروت كبيراً وكبيراً جداً.

و”الأفكار” التي تربطها بالزوجين صلات ودّ وصداقة متقادمة العهد تتقدم من الأرملة الملتاعة وأبنائها ووالد زوجها الحاج بشير النجار وأولاده بأحر عزاء سائلة للفقيد الرحمة والرضوان.


نُشرت في مجلة “الأفكار”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى